فنون إسلامية
2019-05-29
1190 زيارة
وصل الحرف العربي الى جمال زخرفي لم يصل اليه أي حرف آخر من حروف اللغات الاخرى في تاريخ الانسانية قاطبة.. حيث بلغ ذروته في القرنين الخامس والسادس الهجريين ( الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ) وذلك لأن الاسلام ايقظ في نفوس المسلمين الحاجة الى الحضارة وبعث فيهم الشعور بحب الخير فالحرف العربي الذي كتب به القرآن الكريم يعد مقدساً وكان الخطاطون ومازالوا ينافس احدهم الآخر في التفنن بكتابة حروفه الجميلة وتجويدها، فللحروف العربية جمالية خاصة وميزة فريدة تجلت فيها عبقرية الفنان المسلم بيده المرنة و قابليته الابتكارية التي تكسب الخط جمالاً وبهجة، ولحروفها حرية شديدة ناشئة من مطاوعتها واستدارتها والنابعة من اصل هندسي ثابت وقاعدة رياضية معروفة.. فأصل الحروف العربية ( الألف ) الذي هو خط مستقيم جعلوه قطر دائرة ، اما بقية الحروف فهي اجزاء من الدائرة المحيطة بهذا القطر منسوب اليه، ولو اعيدت الحروف الى التسطيح وازيل تقوسها لكانت كلها من الألف بنية معينة ثابتة ولكل حرف من الحروف العربية هندسته الخاصة عرفت بالنسبة الفاضلة .
المخطوطة اعلاه من ابداعات الخطاط التركي حمد الله الاماسي .. والذي اخذ الأقلام الستة على يد خطاط يدعى خير الدين المرعشي الذي كان يكتب على طريقة ياقوت المستعصمي.. وقد قام الاماسي بدراسة اسلوب ياقوت حتى استطاع ان يبدع لنفسه أسلوبا خاصا ويشرع في الكتابة منتهجا إياه حتى عرف (بقبلة الكتاب) , وقد قضى عمره بكتابة العديد من المصاحف التي بلغ عددها سبعة وأربعين مصحفا، كما كتب العديد من الآيات الشريفة وأجزاء القران المنفردة ومجاميع الدعاء والطومار والقطع والرقاع والامشاق وغيرها.. و المخطوطة اعلاه تصنف من الرقاع الخطية وقد كتبت بمزيج من خطي الثلث والنسخ كما هو واضح بمقطعيها الافقيين الاعلى والاسفل فالأعلى كتب بخط الثلث والاخر كتب بخط النسخ وهي بمجملها تحمل بين مداد حروفها ابعاداً جمالية واخرى وظيفية كما هو حال الرقاع الخطية الاخرى .
اما الابعاد الجمالية فقد تحققت من خلال اعتماد الخطاط الاتجاه المستوي في كتابة خط النسخ مما حقق تناسباً متكافئاً في مساحات النصوص، فضلاً عن سعي الخطاط الى توفير التناسب في قياس قلمي الثلث والنسخ .. وهناك ايضاً ضبط للقواعد و توزيع المساحات الخطية والزخرفية وفق الموازين الجمالية ليتحقق من خلاله التوازن في تمام الرقعة.. ولا يخفى ما لتناغم المداد الأسود مع الألوان الطبيعية من دور في ابراز جماليات اعلى للنص المكتوب والرقعة الخطية بشكل عام ، مع العلم ان النصوص المكتوبة غير مرتبطة المعنى .. ولنا ان نتطرق بشيء من الايجاز عن الابعاد الجمالية لهذه الرائعة الخطية التأريخية فهي قد تكون احدى المفاصل المهمة التي تربط بين اسلوبي مدرسة بغداد للخط والمدرسة العثمانية..
اما فيما يخص البعد الوظيفي.. فالمتأمل لهذه الرائعة الفنية يلمس انها تعكس إرهاصات مبكرة لهذا النوع من التوجهات الفنية في ميدان الخط العربي خاصة وان الخطاط حمد الله الاماسي مثل حلقة التحول من المدرسة البغدادية إلى المدرسة العثمانية ، وقد عمد الى تجنب التراكب خاصة في خط الثلث فاتخذت الرقعة الخطية طابعا تدوينياً قرائياً بالدرجة الأساس، فهي قد تحقق البعد الوظيفي فيها وبشكل اساس من خلال الوضوح والمقروئية التي تتسم بها للنص بخطي الثلث والنسخ .. ولم يلحظ في هذه الرقعة الخطية ترابطا في وحدة المعنى بل هي عبارة عن نصوص ثلاثة متباينة في الدلالة، ويبدو ان هذا المنحى كان ديدناً لدى خطاطي تلك الحقبة من خلال استهدافهم إظهار التجويد الخطي واظهاره بأبهى صوره دون الالتفات إلى تكامل دلالات النصوص بعضها بالبعض الآخر.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة